تزكية النفس
أراد الله تعالى للإنسان في أكثر من آية كريمة، أن يبحث عن أسباب الفلاح، ليكون من المفلحين الناجحين في الدنيا والآخرة، ولينال من خلال ذلك القرب من الله، حيث يُدخله تعالى في رضوانه، ويوصله إلى جنّته. وقد أكّد القرآن الكريم، أنَّ من أولى مسؤوليات الإنسان هي الاهتمام بنفسه وتربيتها من الداخل، من خلال ما يفكر ويشعر، ثم تربيتها في حركة الخارج، بأن يربي نفسه على أن تعمل الخير كله، وتقف عند مواقع الحق كله، وتنطلق بالعدل كله للناس جميعاً(1).
عناصر الفلاح وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه العملية التربوية بكلمة التزكية، والتزكية تعطي معنى التطهير للنفس، لأنك عندما تطهّر نفسك من كل الرذائل الروحية والفكرية والشعورية والعاطفية، فإنك تعطي نفسك الانفتاح على كل ما يقرّبك إلى الله تعالى، وبذلك تجعل نفسك تنمو في خط الخير والحق والعدل ورضوان الله، لأن التزكية تعطي مسألة التنمية(2). وهذا ما ينبغي للإنسان أن يؤكده في كل نشاطاته الروحية والعملية، وقد أراد الله تعالى للإنسان أن يبدأ بنفسه ليؤكد فلاحها بأكثر من وسيلة ووسيلة(3)، فنقرأ قوله تعالى: {قد أفلح من تزكّى* وذكر اسم ربه فصلّى}
إن الله تعالى يريد أن يؤكد للإنسان، أن عليه أن يدرس نفسه من خلال إبداع الله تعالى لهذه النفس في كل الأجهزة التي تنظم لها حياتها، وتخطط لها حركتها، هذه النفس العجائبية التي أعطاها الله تعالى القدرة على القيام بشؤون الحياة، والتي سوّاها وجعلها قادرة على الحركة والإبداع(5). يقول تعالى: {ونفس وما سوّاها* فألهمها فجورها وتقواها} .(6) {قد أفلح من زكّاها} ، من أهملها وتركها تعيش في داخل زنازين الشهوات والغرائز(8). وبتعبير آخر، من لا يطلقها في حركة الخير وفي خط الحق، وفي السير من أجل القيام بالمسؤولية في الحياة كلها(9). مواقع الفلاح وقد فصّل القرآن الكريم في سورة "المؤمنون" مواقع الفلاح، التي تؤدِّي بالإنسان المفلح إلى أن ينال رضى الله ويتحرك بجهده نحو جنّته، يقول تعالى: {قد أفلح المؤمنون}. ما هي مظاهر فلاحهم؟ {الذين هم في صلاتهم خاشعون} هم الذين يجعلهم إيمانهم يخشعون لله عندما يذكرونه {والذين هم عن اللغو معرضون}
أيضاً، من مظاهر فلاحهم {والذين هم للزكاة فاعلون} (المؤمنون:4)، هؤلاء الذين أنقذوا أنفسهم من البخل: {ومن يوقَ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر:9)، لأن البخل يمنع الإنسان من القيام بما فرضه الله عليه، ومن العطاء في معنى مشاركته الإنسان الآخر في حاجاته الإنسانية، {والذين هم لفروجهم حافظون} الذين يعيشون العفة في الجانب الجنسي، فلا يزنون، ولا يمارسون الشذوذ الجنسي المذكّر في اللواط، ولا يمارسون الشذوذ الجنسي المؤنث في السحاق، {إلا على أزواجهم} فالعلاقة الزوجية الشرعية هي العلاقة التي يمكن للإنسان أن يشبع فيها شهوة الجنس عنده، رجلاً كان أو امرأةً {أو ما ملكت أيمانهم} في ما كان يُعرف بملك اليمين في السابق، وقد زال من المجتمع الإسلامي {فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك} في ما حرّمه الله عليه من الزنا والسحاق واللواط {فأولئك هم العادون} (المؤمنون:5-7) هم المعتدون على شريعة الله(10).
{والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}
قد يشعر الناس بالتعب عندما يأخذون بأسباب الفلاح هذه، فيحرم الإنسان نفسه من بعض ماله وشهواته وعلاقاته، ولكن "ما شرّ بشر ـ قالها رسول الله(ص) ـ بعده الجنة، وما خير بخير بعده النار"، ما قيمة أن تجلب لنفسك بعض الخير الذي تحسبه خيراً للدنيا، ثم ترمى في نار وقودها الناس والحجارة، وعندها سوف تنسى كل لذاتك وشهواتك؟! ما قيمة شهوة ولذة عابرتين أمام ما يلاقيه الإنسان من مصير في الآخرة؟!(11). وهكذا، عندما يحدّثنا الله تعالى عن صلاة الجمعة، هذه الصلاة التي يتركها الكثيرون من الناس لأنهم مشغولون بتجارتهم، يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون* فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} . تربيـة النفس وفي ضوء ما تقدم، ينبغي على الإنسان أن يربي نفسه على الأخلاق الفردية والاجتماعية، فيدرّب نفسه على التصدّق على الفقراء والمساكين، والصدقة تدفع البلاء، وتكون بيد الله قبل أن تكون بيد الفقير، والصدقة هي للفقراء الذين {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف}
ومن الأخلاق التي ينبغي أن نربّي أنفسنا عليها أيضاً، أن نغضّ أبصارنا عما حرّم الله النظر إليه، وأن نغضّ أسماعنا عما حرّم الله الاستماع إليه، وأن نتحنّن على الأيتام الذين هم أمانة الله في المجتمع، فعلينا أن نتكفّل الأيتام، سواء في بيوتهم أو في المبرات التي تؤويهم، ومن تكفّل يتيماً كان مع رسول الله(ص) في الجنة بحسب الحديث المروي عن رسول الله(ص)، ولاسيما أن هناك العديد من مشاريع تكفّل الأيتام، سواء في بيوتهم التي يقوم بها مكتب الخدمات التابع لمؤسستنا، أو في جمعية المبرات الخيرية، أو في مؤسسة الشهيد، فالمجتمع عندما يتعاون تزدهر مؤسساته، وإذا توزَّع هذا الجهد، فإن المسؤولية عند ذلك تتوزع، ونستطيع بذلك أن نحفظ أيتامنا(13).
(1) خطبة الجمعة، بيروت :18 شعبان1423 هـ/ 25 تشرين الأول ـ أكتوبر 2002م (2) خطبة الجمعة، المصدر نفسه.
(3) خطبة الجمعة، بيروت :30 ربيع الثاني 1425 هـ / 18 حزيران -2004م
(5) خطبة الجمعة، بيروت :30 ربيع الثاني 1425 هـ / 18 حزيران -2004م
(7) خطبة الجمعة، بيروت :30 ربيع الثاني 1425 هـ / 18 حزيران -2004م
(9) خطبة الجمعة، بيروت :30 ربيع الثاني 1425 هـ / 18 حزيران -2004م
(10) خطبة الجمعة، بيروت :18 شعبان1423 هـ/ 25 تشرين الأول ـ أكتوبر 2002م
(11) خطبة الجمعة، المصدر نفسه.
(12) خطبة الجمعة، المصدر نفسه.
(13) خطبة الجمعة، بيروت،: 23 شعبان 1422 هـ / 9 -11-2001م
(8) خطبة الجمعة، بيروت :18 شعبان1423 هـ/ 25 تشرين الأول ـ أكتوبر 2002م
(6) خطبة الجمعة، بيروت :18 شعبان1423 هـ/ 25 تشرين الأول ـ أكتوبر 2002م
(4) خطبة الجمعة، بيروت :18 شعبان1423 هـ/ 25 تشرين الأول ـ أكتوبر 2002م