Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
le blog de houda
22 juin 2007

الحرية في المجال الاجتماعي:

 

كما يخوض الإسلام معركة التحرير الداخلي للإنسانية، كذلك

{119}

يخوض معركة اخرى لتحرير الإنسان في النطاق الاجتماعي فهو يحطم في المحتوى الداخلي للإنسان أصنام الشهوة التي تسلبه حريته الإنسانية، ويحطم في نطاق العلاقات المتبادلة بين الأفراد الأصنام الاجتماعية، ويحرر الإنسان من عبوديتها، ويقضي على عبادة الإنسان للإنسان: «قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله». فعبودية الإنسان لله تجعل الناس كلهم يقفون على صعيد واحد بين يدي المعبود الخالق: فلا توجد أمة لها الحق في استعمار أمة اخرى واستعبادها ولا فئة من المجتمع يباح لها اغتصاب فئة اخرى ولا انتهاك حريتها، ولا انسان يحق له ان ينصب نفسه صنماً للآخرين.

ومرة أخرى نجد أن المعركة القرآنية الثانية من معارك التحرير قد استعين فيها بنفس الطريقة التي استعملت في المعركة الأولى: ( معركة الإنسانية داخلياً من الشهوات )، وتستعمل دائماً في كل ملاحم الإسلام.. وهي: التوحيد. فما دام الإنسان يقر بالعبودية لله وحده، فهو يرفض بطبيعة الحال كل صنم وكل تأليه مزور لأي إنسان وكائن، ويرفع رأسه حراً أبياً ولا يستشعر ذل العبودية والهوان أمام أي قوة من قوى الارض او صنم من أصنامها. لان ظاهرة الصنمية في حياة الإنسان نشأت عن سببين: احدهما: عبوديته للشهوة التي تجعله يتنازل

{120}

عن حريته الى الصنم الإنساني، الذي يقدر على إشباع تلك الشهوة وضمانها له. والآخر: جهله بما وراء تلك الأقنعة الصنمية المتألهة من نقاط الضعف والعجز. والإسلام حرر الإنسان من عبودية الشهوة كما عرفنا آنفاً، وزيف تلك الأقنعة الصنمية الخادعة: «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم» فكان طبيعياً أن ينتصر على الصنمية، ويمحو من عقول المسلمين عبودية الأصنام بمختلف أشكالها والوانها.

وعلى ضوء الأسس التي يقوم عليها تحرير الإنسان من عبوديات الشهوة في النطاق الشخصي، وتحريره من عبودية الأصنام في النطاق الاجتماعي، سواء كان الصنم امة، ام فئة أم فرداً.. نستطيع ان نعرف مجال السلوك العملي للفرد في الإسلام، فان الإسلام يختلف عن الحضارات الغربية الحديثة التي لا تضع لهذه الحرية العملية للفرد حداً إلاّ حريات الأفراد الآخرين، لان الإسلام يهتم؛ قبل كل شيء ـ كما عرفنا ـ بتحرير الفرد من عبودية الشهوات والأصنام، ويسمح له بالتصرف كما يشاء علي ان لا يخرج عن حدود الله. فالقرآن يقول: «خلق لكم ما في الأرض جميعاً»(البقرة: 39)«وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه»(الجاثية: 13 )وبذلك يضع الكون بأسره تحت تصرف الإنسان وحريته ولكنها حرية محدودة بالحدود التي تجعلها تتفق مع تحرره الداخلي من

{121}

عبودية الشهوة وتحرره الخارجي من عبودية الأصنام. واما الحرية العملية في عبادة الشهوة والالتصاق بالأرض ومعانيها، والتخلي عن الحرية الإنسانية بمعناها الحقيقي.. واما الحرية العملية في السكوت عن الظلم والتنازل عن الحق، وعبادة الأصنام البشرية والتقرب اليها، والانسياق وراء مصالحها، والتخلي عن الرسالة الحقيقية الكبرى للإنسان في الحياة.. فهذا ما لا يأذن به الإسلام لانه تحطيم لاعمق معاني الحرية في الإنسان، ولان الإسلام لا يفهم من الحرية ايجاد منطلق للمعاني الحيوانية في الإنسان، وانما يفهمها بوصفها جزءاً من برنامج فكري وروحي كامل، يجب ان تقوم على أساسه الإنسانية.

***

ونحن حين نبرز هذا الوجه التحريري الثوري للإسلام في النطاق الاجتماعي.. لا نعني بذلك انه على وفاق مع الحريات الاجتماعية الديمقراطية في اطارها الغربي الخاص. فان الإسلام كما يختلف عن الحضارة الغربية في مفهومه عن الحرية الشخصية ـ كما عرفنا قبل لحظة ـ كذلك يختلف عنها في مفهومه عن الحرية السياسية والاقتصادية والفكرية.

فالمدلول الغربي للحرية السياسية: يعبر عن الفكرة الأساسية في الحضارة الغربية القائلة: ان الإنسان يملك نفسه، وليس

{122}

لأحد التحكم فيه. فان الحرية السياسية كانت نتيجة لتطبيق تلك الفكرة الأساسية على الحقل السياسي، فما دام شكل الحياة الاجتماعية ولونها وقوانينها يمس جميع أفراد المجتمع مباشرة فلابد للجميع ان يشتركوا في عملية البناء الاجتماعي بالشكل الذي يحلو لهم، وليس لفرد ان يفرض على آخر ما لا يرتضيه، ويخضعه بالقوة لنظام لا يقبله.

وتبدأ الحرية السياسية تتناقض مع الفكرة الأساسية منذ تواجه واقع الحياة، لأن من طبيعة المجتمع ان تتعدد فيه وجهات النظر وتختلف، والاخذ بوجهة نظر البعض يعني سلب الآخرين حقهم في امتلاك ارادتهم والسيطرة على مصيرهم. ومن هنا جاء مبدأ الأخذ برأي الأكثرية، بوصفه توفيقاً بين الفكرة الأساسية والحرية السياسية. ولكنه توفيق ناقص: لأن الاقلية تتمتع بحقها في الحرية وامتلاك ارادتها كالأكثرية تماماً، ومبدأ الأكثرية يحرمها من استعمال هذا الحق فلا يعدو مبدأ الاكثرية ان يكون نظاماً تستبد فيه فئة بمقدرات فئة اخرى، مع فارق كمي بين الفئتين.

ولا ننكر ان مبدأ الأكثرية قد يكون بنفسه من المبادئ التي يتفق عليها الجميع، فتحرص الاقلية على تنفيذ رأي الاكثرية باعتباره الرأي الأكثر أنصارا، وان كانت في نفس الوقت تؤمن بوجهة رأي اخرى، وتعمل لكسب الاكثرية الى

{123}

جانبه. ولكن هذا فرض لا يمكن الاعتراف بصحته في كل المجتمعات، فهناك توجد كثيراً الأقليات التي لا ترضى عن رأيها بديلاً، ولو تعارض ذلك مع رأي الأكثرية.

ونستخلص من ذلك: ان الفكرة الأساسية في الحضارة الغربية لا تأخذ مجراها في الحقل السياسي، حتى تبدأ تتناقض وتصطدم بالواقع، وتتجه الى لون من الوان الاستبداد والفردية في الحكم، يتمثل على افضل تقدير في حكم الأكثرية للاقلية.

والإسلام لا يؤمن بهذه الفكرة الاساسية في الحضارة الغربية لانه يقوم على العقيدة بعبودية الإنسان لله، وان الله وحده هو رب الإنسان ومربيه، وصاحب الحق في تنظيم منهاج حياته «أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ان الحكم إلاّ الله أمر ألا تعبدوا إلاّ إياه»( يوسف: 39، 40 )وينعى على الافراد الذين يسلمون زمام قيادهم للآخرين، ويمنحونهم حق الامامة في الحياة والتربية والربوبية: « اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله»( التوبة: 31 ). فليس لفرد ولا لجموع أن يستأثر من دون الله بالحكم، وتوجيه الحياة الاجتماعية ووضع مناهجها ودساتيرها.

وفي هذا الضوء نعرف ان تحرير الإسلام للإنسان في المجال السياسي، انما يقوم على اساس الايمان بمساواة أفراد المجتمع في تحمل أعباء الأمانة الالهية، وتضامنهم في تطبيق احكام الله

{124}

تعالى: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». فالمساواة السياسية في الإسلام تتخذ شكلاً يختلف عن شكلها الغربي، فهي مساواة في تحمل الامانة وليست مساواة في الحكم.

ومن نتائج هذه المساواة تحرير الإنسان في الحقل السياسي من سيطرة الآخرين، والقضاء على الوان الاستغلال السياسي واشكال الحكم الفردي والطبقي.

ولذلك نجد ان القرآن الكريم شجب حكم فرعون والمجتمع الذي كان يحكمه، لأنه يمثل سيطرة الفرد في الحكم وسيطرة طبقة على سائر الطبقات: « ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم»(القصص: 4 )فكل تركيب سياسي يسمح لفرد او لطبقة باستضعاف الافراد او الطبقات الاخرى والتحكم فيها.. لا يقره الإسلام، لأنه ينافي المساواة بين أفراد المجتمع في تحمل الامانة، على صعيد العبودية المخلصة لله تعالى.

***

واما الحرية الاقتصادية فهي بمفهومها الرأسمالي حرية شكلية تتلخص في: فسح المجال امام كل فرد ليتصرف في الحقل الاقتصادي كما يريد، دون ان يجد من الجهاز الحاكم أي لون من ألوان الاكراه والتدخل. ولا يهم الرأسمالية بعد ان تسمح للفرد بالتصرف كما يريد. ان تخمن له شيئاً مما يريد، وبتعبير آخر

{125}

لا يهمها ان تتيح له ان يريد... شيئاً. لهذا نجد ان الحرية الاقتصادية في مفهومها الرأسمالي خاوية، لا تحمل معنى بالنسبة الى من لم تسمح له الفرص بالعيش، ولم تهيئ له ظروف التنافس والسباق الاقتصادي مجالاً للعمل والانتاج. وهكذا تعود الحرية الرأسمالية شكلاً ظاهرياً فحسب، لا تحقق لهؤلاء شيئاً من معناها إلاّ بقدر الحرية التي تمنحها للافراد الذين يعجزون عن السباحة اذ قلنا لهم: انتم احرار فاسبحوا كما يحلو لكم، اينما تريدون. ولو كنا نريد حقاً ان نوفر لهؤلاء حرية السباحة ونعطيهم فرصة التمتع بهذه الرياضة كما يتمتع القادرون على السباحة.. لكفلنا لهم حياتهم خلالها، وطلبنا من الماهرين فيها الحفاظ عليهم ومراقبتهم وعدم الابتعاد عنهم في مجال السباحة، لئلا يغرقوا، فنكون بذلك قد وفرنا الحرية الحقيقية والقدرة على السباحة للجميع، وان حددنا شيئاً من نشاط الماهرين لضمان حياة الآخرين.

وهذا تماماً ما فعله الإسلام في الحقل الاقتصادي: فنادى بالحرية الاقتصادية وبالضمان معاً، ومزج بينهما في تصميم موحد فالكل أحرار في المجال الاقتصادي، ولكن في حدود خاصة. فليس الفرد حراً حين يتطلب ضمان الافراد الآخرين والحفاظ على الرفاه العام.. التنازل عن شيء من حريته.

وهكذا تآلفت فكرتا الحرية والضمان في الإسلام (1).

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)

لاجل التوسع لاحظ دراستنا للحرية الرأسمالية في كتاب اقتصادنا: ص 247 ـ 269.

{126}

واما الحرية الفكرية فهي تعني في الحضارة الغربية: السماح لأي فرد ان يفكر ويعلن افكاره ويدعو اليها كما يشاء، على ان لا يمس فكرة الحرية والأسس التي ترتكز عليها بالذات ولهذا تسعى المجتمعات الديمقراطية الى مناوأة الأفكار الفاشستية والتحديد من حريتها او القضاء عليها بالذات، لان هذه الافكار تحارب نفس الافكار الأساسية والقاعدة الفكرية، التي تقوم عليها فكرة الحرية والاسس الديمقراطية.

والإسلام يختلف عن الديمقراطية الرأسمالية في هذا الموقف نتيجة لاختلافه عنها في طبيعة القاعدة الفكرية التي يتبناها وهي: التوحيد وربط الكون برب واحد. فهو يسمح للفكر الإنساني ان ينطلق ويعلن عن نفسه، مالم يتمرد على قاعدته الفكرية التي هي الاساس الحقيقي لتوفير الحرية للإنسان في نظر الإسلام، ومنحه شخصيته الحرة الكريمة التي لا تذوب امام الشهوات، ولا تركع بين يدي الاصنام. فكل من الحضارة الغربية والإسلام يسمح بالحرية الفكرية بالدرجة التي لا ينجم عنها خطر على القاعدة الاساسية، وبالتالي على الحرية نفسها.

ومن المعطيات الثورية للحرية الفكرية في الإسلام: الحرب التي شنها على التقليد وجمود الفكر، والاستسلام العقلي للاساطير أو لآراء الآخرين، دون وعي وتمحيص. والهدف الذي يرمي اليه الإسلام من ذلك: تكوين العقل الاستدلالي او البرهاني

{127}

عند الإنسان، فلا يكفي لتكوين التفكير الحر لدى الإنسان ان يقال له: فكر كما يحلوا لك، كما صنعت الحضارة الغربية لان هذا التوسع في الحرية سوف يكون على حسابها، ويؤدي في كثير من الاحايين الى ألوان من العبودية الفكرية تتمثل في التقليد والتعصب وتقديس الخرافات، بل لا بد في رأي الإسلام لانشاء الفكر الحر أن ينشئ في الإنسان العقل الاستدلالي او البرهاني الذي لا يتقبل فكرة دون تمحيص ولا يؤمن بعقيدة مالم تحصل على برهان ليكون هذا العقل الواعي ضماناً للحرية الفكرية وعاصماً للإنسان من التفريط بها، بدافع من تقليد او تعصب أو خرافة. وفي الواقع ان هذا جزء من معركة الإسلام لتحرير المحتوى الداخلي للإنسان فهو كما حرر الارادة الإنسانية من عبودية الشهوات كما عرفنا سابقاً، كذلك حرر الوعي الإنساني من عبودية التقليد والتعصب والخرافة. وبهذا وذاك فقط اصبح الإنسان حراً في تفكيره وحراً في إرادته.

«.. فبشر عبادِ * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.»(الزمر: 17 ـ 18 ). «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون»(النحل: 44 ). «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أولو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون»(البقرة: 170 ). «تلك أمانيهم

{128}

قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»(البقرة: 111 ).

الضمان في الإسلام والماركسية:

يختلف الضمان في الإسلام عن الضمان الاشتراكي القائم على الاسس الماركسية في ملامح عديدة، مردها الى اختلاف الضمانين في الاسس والاطارات والاهداف.

ولا يمكننا في هذا المجال إلاّ استعراض بعض جوانب الاختلاف اكتفاءاً بدراستنا الموسعة لذلك في كتاب «اقتصادنا».

1 ـ الضمان الاجتماعي في الإسلام: حق من حقوق الإنسان التي فرضها الله تعالى، وهو بوصفه حقاً انسانياً لا يتفاوت باختلاف الظروف والمستويات المدنية. واما الضمان لدى الماركسية فهو حق الآلة، وليس حقاً انسانياً. فالآلة: (وسائل الانتاج) متى وصلت الى درجة معينة، يصبح الضمان الاشتراكي شرطاً ضرورياً في نموها واطراد انتاجها، فما لم تبلغ وسائل الانتاج هذه المرحلة، لا معنى لفكرة الضمان. ولأجل ذلك تعتبر الماركسية الضمان خاصاً بمجتمعات معينة في دورة محددة من التاريخ.

{129}

الحديث: «المسلم أخ المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحرمه» فيحق على المسلمين الإجتهاد والتواصل والتعاون والمواساة لأهل الحاجة.

واما الماركسية فهي: ترى ان ايجاد الضمان الاشتراكي ليس إلاّ ثمرة لصراع هائل مرير، يجب إيقاده وتعميقه، حتى اذا قامت المعركة الطبقية وأفنيت إحدى الطبقتين وتم الإنتصار للطبقة الاخرى.. ساد الضمان الإشتراكي المجتمع. فالضمان عند الماركسية ليس تعبيراً عن وحدة مرصوصة واخوة شاملة، وإنما يرتكز على تناقض مستقطب وصراع مدمر.

3 ـ ان الضمان في الإسلام ـ بوصفه حقاً إنسانياً ـ لا يختص بفئة دون فئة. فهو يشمل حتى أولئك الذين يعجزون عن المساهمة في الانتاج العام بشيء، فهم مكفولون في المجتمع الإسلامي ويجب على الدولة توفير وسائل الحياة لهم. واما الضمان الماركسي فهو يستمد وجوده من الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية، الذي يكلل بظفر الطبقة العاملة وتضامنها واشتراكها في تلك الثورة. لأجل ذلك لا يوجد مبرر ماركسي لضمان حياة اولئك العاجزين الذين يعيشون بعيدين عن الصراع الطبقي، ولا يساهمون في الإنتاج العام لأنهم لم يشتركوا في المعركة لعدم انتمائهم الى الطبقة العاملة ولا

{130}

الى الطبقة الرأسمالية، فليس لهم حق في مكاسب المعركة وغنائمها.

4 ـ ان الضمان في الماركسية من وظيفة الدولة وحدها، واما في الإسلام فهو من وظيفة الافراد والدولة معاً، وبذلك وضع الإسلام المبدأين: أحدهما: مبدأ التكافل العام، والآخر: مبدأ الضمان الاجتماعي.

فمبدأ التكافل يعني: أن كل فرد مسلم مسؤول عن ضمان معيشة الآخرين وحياتهم في حدود معينة، وفقاً لقدرته، وهذا المبدأ يجب على المسلمين تطبيقه حتى في الحالات التي يفقدون فيها الدولة التي تطبق أحكام الشرع. فقد جاء في الحديث: «أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج اليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره.. أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه مزرقة عيناه، مغلولة يداه الى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ثمّ يؤمر به الى النار».

ومبدأ الضمان الاجتماعي يقرر مسؤولية الدولة في هذا المجال، ويحتم عليها ضمان مستوى من العيش المرفه الكريم للجميع، من موارد ملكية الدولة والملكية العامة وموارد الميزانية (1).

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)

لاجل التفصيل راجع اقتصادنا ( المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام وحلولها) ص: 328.

{131}

وقد جاء في الحديث لاستعراض هذا المبدأ: « إنّ الوالي يأخذ المال فيوجهه الوجه الذي وجهه الله له على ثمانية أسهم: للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة، وفي الرقاب والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل. ثمانية اسهم يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق ولا تقية، فان فضل من ذلك شيء رد الى الوالي، وان نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به، كان على الوالي ان يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنون».النجف الاشرف

محمد باقر الصدر

ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي:

بسِم اللّهِ الرحمَنِ الرّحيم

منذ مدة، وأنا أواجه طلباً متزيداً على المدرسة الإسلامية والحاحاً من القراء الاعزاء على اصدار حلقات جديدة منها.

وكنت أتماهل في تلبية هذا الطلب، رغبة في انجاز الكتاب الثاني من اقتصادنا، والتوفر على اكماله، وكان صدور هذا الكتاب سبباً جديداً لازدياد الطلب على اصدار حلقات صغيرة تتناول بحوثه بالتوضيح والتبسيط بقدر الإمكان، لكي تكون متيسرة ومفهومة لعدد أكبر.

وعلى هذا الاساس كتبت هذه الحلقة، متوخياً فيها التبسيط ومتجنباً ذلك المستوى الذي التزمته من الدقة والتعمق في بحوث اقتصادنا. فقد آثرت في عدة مواضع توضيح الفكرة، على اعطائها صيغتها الدقيقة التي حصلت عليه في كتبنا الموسعة.

وسوف أحاول هنا، وأنا أعرّف هذه الحلقة للقراء، ان ألخص لهم أفكارها، وأفهرس بحوثها، ليساعدهم ذلك على فهمها ومتابعة فصولها.

{138}

ان هذه الحلقة تشتمل على اثارة سؤال واحد ومحاولة الاجابة عليه.

والسؤال هو: هل يوجد في الإسلام مذهب اقتصادي؟

ونجيب في هذه الحلقة، على هذا السؤال بالإيجاب، نعم يوجد في الإسلام مذهب اقتصادي.

ونسير من السؤال الى الجواب، بتدرج، فبعد أن نطرح السؤال نشغل بايضاحه، وتوضيح ما يتصل به. ثمّ ندرس الجواب، في ضوء مفهومنا عن الإسلام. وندعم الجواب بالشواهد ونناقش ما يثار عادة من اعتراضات.توضيح السؤال:

نقصد بالمذهب الإقتصادي، ايجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، وفقاً للعدالة. فنحن حين نتساءل عن المذهب الإقتصادي في الإسلام، نريد ان نعرف هل جاء الإسلام بطريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، كما جاءت الرأسمالية مثلاً، بمبدأ الحرية الإقتصادية، واتخذت منه طريقتها العامة، في تنظيم الحياة الإقتصادية.حاجتنا الى هذا السؤال:

وحاجتنا الى هذا السؤال، نابعة من اسباب عديدة، قد يكون من أهمها سلبية الإسلام تجاه الرأسمالية والماركسية ـ

{139}

النظامين الحاكمين في العالم اليوم ـ. فان رفض الإسلام لهما يجعل الإنسان المسلم ينتظر من الإسلام الاتيان بطريقة أخرى في تنظيم الحياة الاقتصادية، لان المجتمع الإسلامي لا يستغني عن طريقة في التنظيم، مهما كان شكلها.الخطأ في فهم السؤال:

وبعد أن نطرح السؤال، ونوضحه، ونشرح أهميته نستعرض الخطأ الذي قد يقع فيه بعض الناس في فهم السؤال اذ لا يميزون بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد في الإسلام مع اننا نريد المذهب الاقتصادي لا علم الاقتصاد.

تصحيح الخطأ بالتمييز بين المذهب والعلم:

ولأجل تصحيح هذا الخطأ في فهم السؤال، توسعنا في توضيح الفرق بين المذهب الاقتصادي، وعلم الاقتصاد. والحقيقة ان الفرق بينهما كبير، فان المذهب الاقتصادي، كما عرفنا يتكفل ايجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية، وفقاً للعدالة وأما علم الاقتصاد، فهو لا يوجد طريقة للتنظيم، وانما يأخذ طريقة من الطرق المتبعة في المجتمعات، فيدرس نتائجها وآثارها كما يدرس العالم الطبيعي نتائج الحرارة وآثارها.

مثال على الفرق بين المذهب والعلم:وقد استعملنا الامثلة العديدة، لتوضيح الفرق بين المذهب الاقتصادي، وعلم الاقتصاد. فالمذهب الرأسمالي مثلاً ينظم الحياة الإقتصادية، على أساس مبدأ الحرية الإقتصادية، ولذلك فهو ينظم السوق، على أساس حرية البائعين في تعيين أثمان السلع. وعلم الإقتصاد لا يحاول الاتيان بطريقة أخرى، لتنظيم السوق وانما مهمته أن يدرس وضع السوق في ظل الطريقة الرأسمالية، ويبحث عن حركة الثمن، وكيف يتحدد، ويرتفع وينخفض، في السوق الحرة، التي نظمت بالطريقة الرأسمالية.

فالمذهب يوجد طريقة للتنظيم، وفقاً لتصوره للعدالة، والعلم يدرس نتائج هذه الطريقة، حين تطبق على المجتمع.

التأكيد على ان الاقتصاد الإسلامي مذهب:

وبعد أن سردنا الأمثلة العديدة، لتوضيح الفرق بين المذهب والعلم، أكدنا على أن المذهب الإقتصادي الذي نتساءل عن وجوده في الإسلام، ونجيب بالإيجاب، لا نعني به علم الإقتصاد لأن الإسلام بوصفه ديناً ليس من وظيفته أن يتكلم في علم الإقتصاد، أو علم الفلك والرياضيات. وإنما هو عن إيجاد الإسلام، طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، لا عن قيام الإسلام بدراسة علمية للطرق الموجودة، في عصره، ولما ينجم عنها

{141}

من نتائج، كما يفعل علماء الإقتصاد.وجهة النظر في الجواب:

وتصل الحلقة، بعد ذلك، إلى شرح وجهة النظر في الجواب فتعطي المفهوم الصحيح عن الشريعة، واستيعابها وشمولها لشتى الميادين. وتستدل على ذلك، من طبيعة الشريعة ونصوصها. ثمّ نستعرض بعد ذلك، بعض الشبهات التي تثار في وجه الإيمان بالإقتصاد الإسلامي، ونجيب عليها. وأخص بالذكر، الشبهة التي تقول: أن الإسلام جاء بتعاليم أخلاقية، ولم يجئ باقتصاد ينظم الحياة، فهو واعظ وليس منظماً. وقد أوضحنا، كيف أن هذه الشبهة استغلت الجانب الأخلاقي في الإسلام، لطمس معالم التنظيم الإجتماعي، مع أن الشريعة عالجت كلا المجالين. فقد مارست الجانب الأخلاقي، بوصفها ديناً، لتربية الفرد ومارست التنظيم الإجتماعي، باعتبارها النظام المختار من السماء للمجتمع البشري.

هذه صورة عن بحوث الرسالة وموضوعاتها، واليكم الآن تفصيلات تلك البحوث والموضوعات.

هَل يُوجَد في الإسلام اقتِصَاد:

{145}قد يكون من أكثر الأسئلة، التي تتردد في كل فكر، وعلى كل لسان، ومع كل مشكلة تمر بها الأمة في حياتها، ويزداد الحاحاً باستمرار، هو السؤال عن المذهب الاقتصادي في الإسلام.

فهل يوجد في الإسلام اقتصاد؟

وهل يمكننا أن نجد حلاً لهذا التناقض المستقطب، بين الرأسمالية والماركسية، الذي يسود العالم اليوم. في بديل جديد مستمد من الإسلام، ومأخوذ من طريقته في التشريع وتنظيم الحياة؟.

وما هو مدى قدرة هذا البديل الجديد الإسلامي، على توفير الحياة الكريمة، واداء رسالته للامة، التي تعاني اليوم محنة عقائدية قاسية، في خضم ذلك التناقض الشديد، بين الرأسمالية والماركسية.

وليس التفكير في هذا البديل الجديد، او التساؤل عن حقيقته ومحتواه الإسلامي، مجرد ترف فكري، يمارسه الإنسان المسلم للمتعة، وانما هو تعبير عن يأس الإنسان المسلم، من النقيضين المتصارعين، واحساسه من خلال مختلف التجارب التي{146}

عاشها، بفشلهما، ـ أي فشل النقيضين المتصارعين وهما الرأسمالية والماركسية ـ، في ملء الفراغ العقائدي والمبدئي للأمة.

والتفكير في البديل الإسلامي، أو التساؤل عنه، اضافة إلى تعبيره عن يأس الإنسان المسلم، من النقيضين المتصارعين. يعبر كذلك أيضاً، عن بوادر اتجاه جديد إلى الإسلام، ويعكس وعياً اسلامياً بدأ يتبلور، ويتخذ مختلف المستويات الفكرية في الأذهان، تبعاً لمدى استعدادها، ونوع تجاوبها مع الإسلام. فبذور الوعي الإسلامي، تعبر عن وجودها في بعض الأذهان على مستوى تساؤل عن الإسلام، وفي نفوس آخرين على مستوى ميل اليه، وعاطفة نحوه. وفي عقول أخرى، على مستوى الايمان به، وبقيادته الرشيدة، في كل المجالات، ايمانها بالحياة.

فالوعي الإسلامي، الذي يتحرك الآن في عقول الأمة ويتخذ مختلف المستويات، هو الذي يطرح الأسئلة تارة، ويوحي بالجواب في صالح الإسلام أخرى، ويتجسد حيناً آخر، صرحاً ايمانياً واعياً شامخاً، في التربة الصالحة من عقول الأمة، التي تمثل الإسلام بين المسلمين.

ومن ناحية أخرى، فان الإسلام بنفسه، يضطر المسلمين الى القاء هذا السؤال على الإسلام، أو على علمائه الممثلين له ومطالبتهم بتقديم البديل الأفضل، للنقيضين المتخاصمين ـ الرأسمالية والماركسية ـ. لأن الإسلام، اذ يعلن في قرآنه، ونصوصه{147}

التشريعية، ومختلف وسائل الإعلان التي يملكها، وبشكل صريح، عدم رضاه عن الرأسمالية والماركسية، معاً، فهو مسؤول بطبيعة الحال، أن يحدد للأمة موقفاً إيجابياً، الى صف ذلك الموقف السلبي، وأن يأخذ بيدها في طريق آخر يتفق مع وجهة نظره، وإطاره العام. لأن الموقف السلبي، إذا فصل عن إيجابية بناءة، ترسم الأهداف، وتحدد معالم الطريق يعني الإنسحاب من معترك الحياة، والتميع الإجتماعي نهائياً، لا المساهمة من وجهة نظر جديدة.

فلابد للإسلام إذن، ما دام لا يقر الإندماج في إطارات رأسمالية واشتراكية وماركسية أن يوفر البديل او يرشد اليه ويصبح من الطبيعي، أن يتساءل المسلمون الذين عرفوا موقف الإسلام السلبي من الرأسمالية والماركسية، وعدم رضاه عنهما أن يتساءلوا عن مدى قوة الإسلام، وقدرته على اعطاء هذا البديل، ومدى النجاح الذي يحالفنا، إذا أردنا أن نكتفي بالإسلام ذاتياً، ونستوحي منه نظاماً اقتصادياً.

وجوابنا على كل ذلك، ان الإسلام قادر على امدادنا بموقف إيجابي غني بمعالمه التشريعية، وخطوطه العامة، وأحكامه التفصيلية التي يمكن أن يصاغ منها إقتصاد كامل، يمتاز عن{148}

سائر المذاهب الإقتصادية، باطاره الإسلامي، ونسبه السماوي وانسجامه مع الإنسانية، كل الإنسانية، بأشواطها الروحية والمادية، وأبعادها المكانية والزمانية.

وهذا ما سوف نراه في البحوث الآتية.

{151}

مَا هُوَ نوع الاقتصاد الإسلامي:ماذا نعني بوجود إقتصاد في الإسلام؟

وما هي طبيعة هذا الإقتصاد الإسلامي، الذي تساءلنا في البدء عنه، ثمّ أكدنا وجوده وإيماننا به؟

ان هذا هو ما يجب أن نبدأ بتوضيحه قبل كل شيء. لأننا حين ندّعي وجود إقتصاد في الإسلام، لا يمكننا البحث عن إثبات الدعوى، مالم تكن محددة ومفهومة، وما لم نشرح للقارئ، المعنى الذي نريده من الإقتصاد الإسلامي.

اننا نريد بالإقتصاد الإسلامي، المذهب الإقتصادي لا علم الإقتصاد.

والمذهب الإقتصادي، هو عبارة عن: إيجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، تتفق مع وجهة نظر معينة عن العدالة.

فنحن حين نتحدث عن اقتصاد الإسلام، انما نعني طريقته في تنظيم الحياة الإقتصادية، وفقاً لتصوراته عن العدالة.

ولا نريد بالإقتصاد الإسلامي، أي لون من الوان البحث العلمي في الإقتصاد.

وهذا النوع من التحديد للاقتصاد الإسلامي، يجعلنا نواجه مسألة التمييز بين المذهب الإقتصادي وعلم الإقتصاد. فما دام الإقتصاد الإسلامي مذهباً إقتصادياً، وليس علماً للإقتصاد فيجب أن نعرف بوضوح اكبر، ما معنى المذهب الإقتصادي وما معنى علم الإقتصاد، وما هي معالم التمييز بينهما؟ وما لم{152}

يتضح ذلك وضوحاً كافياً، مدعماً بالأمثلة، فسوف تظل هوية الإقتصاد الإسلامي، مكتنفة بالغموض.

اننا حين نصف شخصاً بأنه مهندس، وليس طبيباً. يجب أن نعرف معنى المهندس، وما هي وظيفته، وثقافته، وما هو نوع عمله، وبماذا يفترق عن الطبيب، لكي نتأكد من صدق الوصف، على ذلك الشخص، وكونه مهندساً حقاً لا طبيباً. وكذلك حين يقال: ان الإقتصاد الإسلامي، مذهب اقتصادي وليس علماً للاقتصاد، يجب أن نفهم معنى المذهب الاقتصادي بصورة عامة، والوظيفة التي تمارسها المذاهب الإقتصادية وطبيعة تكونها، والفوارق بين المذهب الإقتصادي، وعلم الإقتصاد. لكي نستطيع أن نعرف في ضوء ذلك، هوية الإقتصاد الإسلامي، وكونه مذهباً اقتصادياً، لا علماً للاقتصاد.

وفي عقيدتي، ان ايضاح هوية الإقتصاد الإسلامي، على أساس التمييز الكامل، بين المذهب الإقتصادي وعلم الإقتصاد وادراك ان الإقتصاد الإسلامي مذهب، وليس علماً. ان هذا الايضاح، سوف يساعدنا كثيراً، على اثبات الدعوى ـ أي اثبات وجود اقتصاد في الإسلام ـ. وينقض المبررات التي يستند اليها جماعة ممن ينكرون وجود الإقتصاد في الإسلام ويستغربون من القول بوجوده.{153}

وعلى هذا الاساس، سوف نقوم بدراسة للمذهب الإقتصادي وعلم الاقتصاد، بصورة عامة وللفوارق بينهما.

المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد:كل انسان منا يواجه لونين من السؤال في حياته الاعتيادية ويدرك الفرق بينهما. فحين نريد ان نسأل الاب عن سلوك ابنه مثلا: قد نسأله كيف ينبغي ان يسلك ابنك في الحياة؟ وقد نسأله كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته؟.

وحين نوجّه السؤال الاول الي الاب، ونقول له كيف ينبغي ان يسلك ابنك في الحياة؟ يستوحي الاب جوابه، من القيم والمثل والأهداف، التي يقدسها، ويتبناها في الحياة. فيقول مثلاً: ينبغي ان يكون ولدي شجاعاً جريئاً طموحاً أو يقول ينبغي ان يكون مؤمناً بربه، واثقاً من نفسه، مضحياً في سبيل الخير والعقيدة.

وأما حين نوجّه السؤال الثاني للاب، ونقول له: كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته؟ فهو لا يرجع الى قيمه ومثله ليستوحي منها الجواب. وانما يجيب على هذا السؤال، في ضوء اطلاعاته عن سلوك ابنه، وملاحظاته المتعاقبة له. فقد يقول: هو فعلاً مؤمن واثق شجاع. وقد يقول: انه يسلك سلوكاً{154}

متميعاً، ويتاجر بايمانه، ويجبن عن مواجهة مشاكل الحياة.

فالأب يستمد جوابه على السؤال الأول من قيمه ومثله، التي يؤمن بها. ويستمد جوابه على السؤال الثاني، من ملاحظاته وتجربته لابنه في معترك الحياة.

ويمكننا أن نستخدم هذا المثال، لتوضيح الفرق بين المذهب الإقتصادي، وعلم الإقتصاد. فإننا في الحياة الاقتصادية، نواجه سؤالين متميزين، كالسؤالين اللذين واجههما الأب عن سلوك ابنه فتارة نسأل: كيف ينبغي أن تجري الأحداث في الحياة الإقتصادية؟ وأخرى نسأل: كيف تجري الاحداث فعلاً في الحياة الاقتصادية.

والمذهب الإقتصادي، يعالج السؤال الاول، ويجيب عليه ويستلهم جوابه من القيم والمثل التي يؤمن بها، وتصوراته عن العدالة، كما استلهم الأب جوابه على السؤال الأول، من قيمه ومثله.

وعلم الاقتصاد يعالج السؤال الثاني، ويجيب عليه، ويستلهم جوابه من الملاحظة والتجربة. فكما كان الاب يجيب على السؤال الثاني، على أساس ملاحظته لسلوك ابنه، وتجربته له، كذلك علم الاقتصاد، يشرح حركة الاحداث في الحياة الإقتصادية، على ضوء الملاحظة والخبرة.

وهكذا نعرف، ان علم الإقتصاد، يمارس عملية الإكتشاف لما يقع في الحياة الإقتصادية من ظواهر اجتماعية وطبيعية، ويتحدث{155}

عن اسبابها وروابطها، والمذهب الاقتصادي يقيم الحياة الاقتصادية ويحدد كيف ينبغي أن تكون، وفقاً لتصوراته عن العدالة وما هي الطريقة العادلة في تنظيمها؟.

العلم يكتشف، والمذهب يقيِّم.

العلم يتحدث عما هو كائن، وأسباب تكونه. والمذهب يتحدث عما ينبغي أن يكون، وما لا ينبغي ان يكون.

ولنبدأ بالأمثلة، للتمييز بين وظيفة العلم، ومهمة المذهب بين الاكتشاف والتقييم.المثال الأول:

ولنأخذ هذا المثال: من ارتباط الثمن في السوق، بكمية الطلب فكلنا نعلم من حياتنا الاعتيادية، أن السلعة اذا كثر عليها الطلب، وازدادت الرغبة في شرائها لدى الجمهور، ارتفع ثمنها. فكتاب نؤلفه في الرياضيات، قد يباع بربع دينار، فاذا قررت المعارف تدريسه، وأدى ذلك الى كثرة الطلب عليه، من التلاميذ، ارتفع ثمنه في السوق، تبعاً لزيادة الطلب. وهكذا سائر السلع، فان ثمنها، يرتبط بكمية الطلب عليها في السوق فكلما زاد الطلب ارتفع الثمن.

وارتباط الثمن هذا، بالطلب، يتناوله العلم والمذهب معاً. ولكن كلاً منهما يعالجه من زاويته الخالصة.{156}

فعلم الاقتصاد يدرسه، بوصفه ظاهرة، تتكون وتوجد في السوق الحرة، التي لم يفرض عليها أثمان السلع من جهة عليا كالحكومة. ويشرح كيفية تكون هذه الظاهرة، نتيجة لحرية السوق ويكتشف مدى الارتباط بين الثمن، وكمية الطلب. ويقارن بين الزيادة النسبية في الثمن، والزيادة النسبية في الطلب فهل يتضاعف الثمن، اذا تضاعف الطلب، او يزداد بدرجة أقل. ويشرح ما اذا كان ارتباط الثمن بكمية الطلب، بدرجة واحدة في جميع السلع، او ان بعض السلع، يؤثر عليها ازدياد طلبها، على ارتفاع ثمنها اكثر، مما يؤثره في سلع أخرى.

كل هذا يدرسه العلم، لاكتشاف جميع الحقائق التي تتصل بظاهرة ارتباط الثمن بالطلب، وشرح ما يجري في السوق الحرة، وما ينجم عن حريته، شرحاً علمياً، قائماً على اساليب البحث العلمي والملاحظة المنظمة.

والعلم في ذلك كله، لا يضيف منه شيئاً الى الواقع، وانما هدفه الاساسي، تكوّن فكرة دقيقة عما يجري في الواقع، وما ينجم عن السوق الحرة، من ظواهر، وما بين تلك الظواهر من روابط، وصياغة القوانين التي تعبر عن تلك الروابط وتعكس الواقع الخارجي، بمنتهى الدقة الممكنة.

وأما المذهب الإقتصادي: فهو لا يدرس السوق الحرة ليكتشف نتائج هذه الحرية، واثرها على الثمن ، وكيف يرتبط{157}

الثمن بكمية الطلب في السوق الحرة. ولا يلقي على نفسه سؤال لماذا يرتفع ثمن السلعة في السوق الحرة اذا زاد الطلب عليها؟.

ان المذهب لا يصنع شيئاً من ذلك، وليس من حقه هذا لان اكتشاف النتائج والاسباب، وصياغة الواقع في قوانين عامة تعكسه وتصوره، من حق العلم، بما يملك من وسائل الملاحظة والتجربة والاستنتاج.

وانما يتناول المذهب، حرية السوق، ليقيِّم هذه الحرية ويقيِّم ما تسفر عنه من نتائج، وما تؤدي اليه من ربط الثمن بكمية الطلب الذي يغزو السوق.

ونعني بتقييم الحرية، وتقييم نتائجها، الحكم عليها من وجهة نظر المذهب، إلى العدالة. فإن كل مذهب اقتصادي، له تصوراته العامة عن العدالة. ويرتكز تقييمه لأي منهج من مناهج الحياة الإقتصادية، على أساس القدر الذي يجسده ذلك المنهج من العدالة، وفقاً لتصور المذهب لها.

فحرية السوق، اذا بحثت على الصعيد المذهبي، فلا تبحث باعتبارها ظاهرة موجودة في الواقع، لها نتائجها، وقوانينها العلمية بل بوصفها منهجاً اقتصادياً، يراد اختبار مدى توفر العدالة فيه.

فالسؤال القائل: ما هي نتائج السوق الحرة، وكيف يرتبط الثمن بكمية الطلب فيها، ولماذا يرتبط أحدهما بالآخر{158}

يجيب عليه علم الإقتصاد.

والسؤال القائل: كيف ينبغي أن تكون السوق، وهل أن حريتها كفيلة بتوزيع السلع توزيعاً عادلاً، وإشباع الحاجات بالصورة التي تفرضها العدالة الإجتماعية؟ إن هذا السؤال، هو الذي يجيب عليه المذهب الإقتصادي.

وعلى هذا الأساس، فمن الخطأ أن نترقب من أي مذهب إقتصادي، أن يشرح لنا، مدى ارتباط الثمن، بكمية الطلب في السوق الحرة، وقوانين العرض والطلب، التي يتحدث عنها علماء الإقتصاد، في دراستهم لطبيعة السوق الحرة.المثال الثاني:

من رأي ريكاردو، أن أجور العمال، اذا كانت حرة وغير محدودة من جهة عليا، كالحكومة، تحديداً رسمياً، فلا تزيد عن القدر الذي يتيح للعامل معيشة الكفاف. ولو زادت أحياناً عن هذا القدر، كان ذلك شيئاً موقتاً، وسرعان ما ترجع إلى مستوى الكفاف مرة أخرى.

ويقول ريكاردو، في تفسير ذلك، أن أجور العمال، اذا زادت عن الحد الأدنى من المعيشة، أدى ذلك الى ازديادهم نتيجة لتحسن أوضاعهم، وإقبالهم على الزواج والإنجاب. وما دام عمل العامل سلعة في سوق حرة، لم تحدد فيها الأجور والأثمان{159}

فهو يخضع لقانون العرض والطلب. فاذا ازداد العمال، وكثر عرض العمل في السوق انخفضت الأجور.

وهكذا، كلما ارتفعت الأجور عن مستوى الكفاف، وجدت العوامل التي تحتم انخفاضها من جديد، ورجوعها الى حدها المحتوم. كما انها اذا نقصت عن هذا الحد. نتج عن ذلك، ازديات بؤس العمال، وشيوع المرض والموت فيهم، حتى ينقص عددهم وإذا نقص عددهم، ارتفعت الأجور، ورجعت إلى مستوى الكفاف لأن كل سلعة اذا نقصت كميتها، وقلَّت، ارتفع ثمنها في السوق الحرة.

وهذا ما يطلق عليه ريكاردو، اسم القانون الحديدي للاجور.

وريكاردو في هذا القانون، انما يتحدث عما يجري في الواقع اذا توفرت السوق الحرة للاجراء. ويكتشف المستوى الثابت للاجور، في كنف هذه السوق، والعوامل الطبيعية والاجتماعية التي تتدخل في تثبيت هذا المستوى، والحفاظ عليه، كلما تعرض الاجر لارتفاع او هبوط استثنائيين.

فريكاردو، انما يجيب في هذا القانون، على سؤال: ماذا يجري في الواقع؟ لا عما ينبغي أن يجري. ولأجل هذا كان بحثه في نطاق علم الاقتصاد، لأنه بحث يستهدف اكتشاف ما يجري من احداث وما تتحكم فيها من قوانين.{160}

والمذهب الاقتصادي، حين يتناول أجور العمال، لا يريد أن يكتشف ما يقع في السوق الحرة. وانما يوجد طريقة لتنظيمها، تتفق مع مفاهيم العدالة عنده. فهو يتحدث عن الاساس الذي ينبغي أن تنظم بموجبه الاجور، ويبحث عما اذا كان مبدأ الحرية الاقتصادية، يصلح ان يكون أساساً لتنظيم الاجور، من وجهة نظره عن العدالة أولاً.

وهكذا لا نرى، ان المذهب الإقتصادي، يحدد كيف ينبغي أن تنظم السوق من وجهة نظره الى العدالة. هل تنظم على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية، او على أساس آخر؟ وعلم الاقتصاد، يدرس السوق المنظمة، على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية، مثلاً، ليتعرف على ما يحدث في السوق المنظمة وفقاً لهذا المبدأ، من أحداث، وكيف تحدد فيها أثمان السلع واجور العمال، وكيف ترتفع وتنخفض.

وهذا معنى قولنا: ان العلم يكتشف، والمذهب يقيِّم ويقدر.المثال الثالث:

ولنأخذ المثال الثالث من الانتاج، ولنحدد الزاوية التي منها يدرس علم الإقتصاد الانتاج، والزاوية التي منها يدرس الانتاج في المذهب الإقتصادي. ونتبين الفارق بين الزاويتين.{161}

فعلم الإقتصاد، يدرس من الانتاج الوسائل العامة، التي تؤدي الى تنمية الانتاج، كتقسيم العمل، والتخصص، فيقارن مثلاً، بين مشروعين لإنتاج الساعات، يشتمل كل منهما على عشرة عمال، يكلف كل عامل في أحد المشروعين، بانتاج ساعة كاملة. وأما في المشروع الآخر، فيقسم العمل، ويوكل الى كل عامل نوع واحد من العمليات، التي يتطلبها انتاج الساعة. فهو يكرر هذا النوع الواحد من العملية، باستمرار، دون أن يمارس العلميات الاخري، التي تمر بها الساعة، خلال انتاجها. ان البحث العلمي في الاقتصاد، يدرس هذين المشروعين وطريقتيهما المختلفتين، وأثر كل منهما على الانتاج وعلى العامل.

وهكذا يدرس علم الاقتصاد أيضاً، كل ما يرتبط بالانتاج الإقتصادي، من قوانين طبيعية، كقانون تناقص العلة في الإنتاج الزراعي، القائل أن نسبة زيادة الإنتاج الزراعي من الأرض تقل عن نسبة زيادة النفقات (1).

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بمعني أن الشخص الذي ينفق مئة دينار، على استثمار أرضه، ويحصل منها على عشرين أردباً من القمح. لو أراد أن يضاعف النفقات، فأنفق على الأرض مئتين، بدلاً من مئة دينار، لم يحصل على ضعف الناتج السابق. أي أنه لا يظفر بأربعين أردباً من القمح، بل يحصل على أقل من الضعف. ولو أنفق ثلاثمائة لم يحصل على ثلاثة أضعاف من القمح، بل على زيادة أقل نسبياً من الزيادة التي يحصل عليها، بإنفاق مئتين. وهكذا تظل الزيادة الناتجة عن مضاعفة النفقات، تتناقض نسبياً، حتى تندعم نهائياً، ويعود الانفاق عبثاً باطلاً.

وسبب هذا، أن الأرض نفسها، هي عامل أساسي في الانتاج، فمضاعفة النفقات، لا تكفي لمضاعفة الانتاج، ما دامت كمية العامل الأساسي في الانتاج أي الأرض، ثانية لم تضاعف.{162}

كل هذا يدرسه علم الإقتصاد. لأنه يعبر عن اكتشاف الحقائق على الصعيد الاقتصادي، كما تجري، ويحدد العوامل التي تؤثر بطبيعتها على الانتاج، تأثيراً موافقاً او معاكساً.

وأما المذهب، فهو يبحث الأمور التالية.

هل ينبغي أن يبقى الانتاج حراً، أو يجب اخضاعه لتخطيط مركزي من قبل الدولة؟

هل ينبغي اعتبار تنمية الانتاج، هدفاً أصيلاً، او وسيلة لهدف أعلى؟

واذا كانت تنمية الإنتاج، وسيلة لهدف أعلى، فما هي الحدود والإطارات التي تفرضها طبيعة ذلك الهدف الأعلى، على هذه الوسيلة؟ وهل يجب أن تكون سياسة الإنتاج، أساساً لتنظيم التوزيع، أو العكس؟ بمعنى، أن أيهما يجب أن ينظم لمصلحة الآخر؟ فهل ننظم توزيع الثروة، بالشكل الذي يوفر الإنتاح ويساعد على تنميته، فتكون مصلحة الإنتاج، أساساً للتوزيع «فإذا اقتضت مصلحة الإنتاج، تشريع الفائدة على القروض{163}

التجارية، لجذب رؤوس الأموال، الى مجال الإنتاج. اتخذت الإجراءات بهذا الشأن، ونظم التوزيع، على أساس الإعتراف بحق رأس المال في الفائدة.» أو تنظم توزيع الثروة، وفقاً لمقتضيات العدالة التوزيعية، ونحدد تنمية الإنتاج، بالمناهج والوسائل التي تتفق مع مقتضيات العدالة التوزيعية.

كل هذا يدخل في نطاق المذهب الإقتصادي، لا علم الإقتصاد لأنه يرتبط بتنظيم الإنتاج، وكيف ينبغي أن تصمم سياسته العامة.

استخلاص من الأمثلة السابقة:يمكننا أن نستخلص من الأمثلة السابقة، الخطين المتميزين للعلم والمذهب: خط الاكتشاف والتعرف على أسرار الحياة الإقتصادية، وظواهرها المختلفة، وخط التقييم، وايجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية، وفقاً لتصورات معينة عن العدالة.

وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نميز بين الأفكار العلمية والأفكار المذهبية. فالفكرة العلمية، تدور حول اكتشاف الواقع، كما يجري، والتعرف على أسبابه ونتائجه، وروابطه. فهي بمثابة منظار علمي، للحياة الإقتصادية، فكما أن الشخص حين يضع منظاراً على عينيه، يستهدف رؤية الواقع، دون أن يضيف اليه، أو يغير فيه شيئاً، وكذلك التفكير العلمي{164}

يقوم بدور منظار للحياة الإقتصادية، فيعكس قوانينها وروابطها. فالطابع العام للفكرة العلمية هو الإكتشاف.

وأما الفكرة المذهبية، فهي ليست منظاراً للواقع، بل هي تقدير خاص للموقف، على ضوء تصورات عامة للعدالة. فالعلم يقول: هذا هو الذي يجري في الواقع. والمذهب يقول: هذا هو الذي ينبغي أن يجري في الواقع.

2 ـ مفهوم الإسلام عن تطبيق الضمان الاجتماعي: انه نتيجة للتعاطف الأخوي الذي يسود أفراد المجتمع الاسلامي. فالاخوة الإسلامية هي الاطار الذي تؤدى فريضة الضمان ضمنه. وقد جاء في

Publicité
Commentaires
Archives
Publicité
Publicité