Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
le blog de houda
21 juin 2007

التكافل الاجتماعي في الإسلام/إنفاق العفو نموذجاً

إن الإيمان ليس قضية فلسفية مجرّدة، أو مجرد علاقة بين الفرد وربه بعيداً عن توجيه أنشطته، وممارسته، وعلاقاته اليومية، ففي الإيمان يتم ربط الفكر بالفعل، والنية بالحركة والسلوك القويم. وقد نفى الرسول (ص) كمال الإيمان عن من يبيت شبعان وجاره جائع وهو يعلم: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم».

وقد عد القرآن الإمساك وعدم الإنفاق سبيلاً للتهلكة، بقوله سبحانه وتعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إنّ الله يحبُّ المُحسنين} (البقرة/195).

كما عدّ الكنـز وحجب المال عن وظيفته الاجتماعية، مدعاةً للعذاب الأليم. وليس هذا فحسب، بل رتَّب المسؤولية التقصيرية على الإنسان الذي يعطِّل سبل الكسب وفرص العمل مهما ادّعى الصلاح. وجعل دخول النار في حبس هرة عن طعامها، بل ودخول الجنة في إعانة الحيوان لسدِّ حاجته؛ حيث يقول الرسول الكريم: «دنا رجل إلى بئر فشرب منها وعلى البئر كلب يلهث من العطش فرحِمَه فنـزع أحد خفيه فسقاه فشكر الله له فأدخله الجنة».

وهكذا نجد التكافل وعموم المسؤولية عن الآخر تجاوزت عالم الإنسان إلى عوالم المخلوقات الأخرى.

ولقد عُني القرآن بالتكافل ليكون نظاماً لتربية روح الفرد، وضميره، وشخصيته، وسلوكه الاجتماعي، وليكون نظاماً لتكوين الأسرة وتنظيمها وتكافلها، ونظاماً للعلاقات الاجتماعية، بما في ذلك العلاقة التي تربط الفرد بالدولة، وفي النهاية نظاماً للمعاملات المالية والعلاقات الاقتصادية التي تسود المجتمع الإسلامي. ومن هنا، فإن مدلولات البر، والإحسان، والصدقة تتضاءل أمام هذا المدلول الشامل للتكافل.

ولقد وضع القرآن أسساً نفسيةً وأخرى مادية، لإقامة التكافل الاقتصادي والاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي. ولعلَّ من أهمِّ الأسس النفسية هو إقامة العلاقات المادية والمعنوية على أساس الأخوّة، لقوله تعالى: {إنّما المؤمنون إخوةٌ} (الحجرات/10). وربط الإيمان باستشعار حقوق الأخ، كما رتَّب على رابطة الأخوّة الحب؛ فلا يؤمن الإنسان المسلم، ولا ينجو بإيمانه، ما لم يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه ويعيش معه كالبنيان يشد بعضه بعضاً. وجعل العدل وحفظ الحقوق من قيم الدين الأساسية، بل نُدب إلى عدم الاقتصار على العدل وهو إحقاق الحق، أو إعطاء كلِّ إنسان حقه من دون ظلم، وإنما الإرتقاء إلى الإحسان، وهو التنازل له عن بعض الحقوق. ومن الأسس النفسية أيضاً، الإيثار، وهو عكس الأثرة والأنانية. والإيثار تفضيل الآخر على النفس، من أجل إشاعة جو العفو والرحمة، وهي الغاية التي جاءت من أجلها الشريعة.

وقد عرفت المجتمعات الإسلامية بدايةً نظام «إنفاق العفو» ومارسته طيلة أربعة عشر قرناً، وكان هذا النظام _ ولا يزال بدرجةٍ ما _ قاعدةً لبناء مؤسسات المجتمع المدني في الوطن العربي، في مختلف مجالات التكافل الاقتصادي والاجتماعي، التعليمية والصحية، والخدماتية، بل ويمكن القول: إنه كان أحد الابتكارات المؤسسية الاجتماعية التي جسدت الشعور الفردي بالمسؤولية الجماعية، ونقلته من مستوى الاهتمام «الخاص» إلى الاهتمام «العام» تجاه المجتمع والدولة معاً.

وفي سياق الاهتمام المتزايد _ عالمياً وعربياً _ بمختلف مؤسسات المجتمع المدني وفعالياته، وتزايد الاهتمام بالمنظمات الأهلية غير الحكومية، فإن البحث عن نظام «إنفاق العفو» من خلال مؤسساته، وإسهاماته في بناء ودعم تلك المؤسسات، يضحى أمراً ضرورياً، وبخاصة أن الدراسات القليلة حول هذا النظام، تؤكد أنه بمؤسساته المتنوعة، وبإرثه التاريخي العريق، يكشف عن نمط متميز من أنماط «المشاركة الاجتماعية»، وأنه أحد القواسم المشتركة بين مختلف المجتمعات العربية الإسلامية.

وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن هذا النظام، أيضاً، يمكن إحياؤه، وتفعيل دوره في بناء المجتمع المدني العربي وتطويره، وفي دعم استقلاله، ونهضته، ووحدته.

إنَّ لدى جميع بلدان وطننا العربي _ بلا استثناء _ إرثاً معتبراً من أموال وممتلكات عقارية ومؤسسية، ولكنّ هذا الإرث غير مرئي، وهو موضوع في دائرة الظل في أغلب الأحوال، وغير مستَغَلٍّ بالكفاءة المطلوبة لمصلحة المجتمع، بل وإنّ هذا الإرث لا يزال _ في كثير من الأحيان _ عنواناً على التأخر والإهمال.

وثمة أسباب كثيرة تقف خلف ضعف أداء «إنفاق العفو» في الوطن العربي، وتكرس حالة الضمور في مؤسساته، والكساد لإرثه الاقتصادي، ومن تلك الأسباب _ وربما من أهمها _ ضمور المعرفة بـ «إنفاق العفو» ذاته، وانحسار الوعي به على مستوى النخب المثقّفة والجماهير العربية على حد سواء. ومن هنا، يبرز وجه رئيسي من وجوه الأهمية العملية لتفعيل دور إنفاق العفو في الوطن العربي؛ وذلك بالنظر إلى العلاقة الجدلية بين «النظرية والتطبيق»، وهو ما يعني أن الضمور في أحد طرفي المعادلة يؤدي إلى ضمور في طرفها الآخر.

ومن ثَمّ، فإن تفعيل هذا الدور في الوطن العربي، عملياً، يقتضي إحياء المعرفة العلمية المنظِّمة له في مختلف الأوساط، فضلاً عن الوعي بأهميته والدعوة لممارسته على نطاق المجتمع كله.

أهمية هذه الدراسة

تنبع أهمية هذه الدراسة من خلال الاهتمام بقضية تفعيل «إنفاق العفو» التي يمكن من خلالها بناء مؤسسات أهلية تساعد في التقديم الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع العربي على ضوء الاعتبارات الآتية:

1 - إذكاء الوعي بأحد القواسم المشتركة بين مختلف المجتمعات العربية، وبأحد عناصر وحدتها على مستوى الممارسة الاجتماعية، من خلال قاعدة أصلية هي «إنفاق العفو».

2 - إن تطبيق «إنفاق العفو» يوفّر مصدراً مستقلاً، ومستقراً، ومستمراً، للإسهام في تمويل كثير من الأعمال التطوعية والمؤسسات الأهلية المدنية، الأمر الذي يكسبه قدراً كبيراً من الفعالية في خدمة المجتمع والدولة معاً.

3 - وجود ميل للعمل الخيري والمنظمات غير الحكومية في مختلف بلدان الوطن العربي، وثمة حاجة إلى تأسيس هذا التوجه وفقاً لصيغة تعكس الخصوصية الذاتية والهوية الحضارية لمجتمعاتنا، ولا شك في أن الوقف يمكن أن يسهم بدور كبير في هذا السياق.

هدف الدراسة:

تهدف هذه الدراسة إلى أمور منها:

1 - الإسهام في تعميق المعرفة العلمية المنظمة بـ «إنفاق العفو»، وتجديد الوعي به وبأهميته التاريخية والمعاصرة.

2 - الإسهام في معرفة المؤسسات العريقة الضخمة التي يمكن لإنفاق العفو أن يساهم بها، والاطلاع على كيفية تكوينها، والتعرّف على أدوارها المتنوعة في حياة المجتمع العربي على طول تاريخه، وبخاصة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية المتمثِّلة في دور هذه المؤسسات في تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع المدني العربي.

3 - التركيز على البعد المستقبلي الذي يمكن أن يسهم به «إنفاق العفو» في المساعدة على حلِّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات العربية، وذلك بهدف التوصل إلى رؤية عملية قابلة للتطبيق في أرض الواقع، ويكون من شأنها تفعيل دور «إنفاق العفو» وتحديد وظائفه لخدمة قضايا التطور الاقتصادي والاجتماعي في الوطن العربي.

إنفاق العفو ودوره في تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي:

لقد غُيِّبت أفكار إسلامية عدة ضمن ما غُيِّب من أفكار إسلامية هامة تُعَدُّ في بؤرة النظام الإسلامي، وتُعتبر فكرة «إنفاق العفو» إحدى أهم هذه الأفكار التي جاء بها الإسلام ليحقق بها نماء المجتمع من خلال تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي بين أفراده.

ولم يقتصر القرآن على بناء الأسس النفسية الثقافية للتكافل الاقتصادي والاجتماعي، وإنما وضع، أيضاً، أسساً مادية عملية _ وهي موضع اهتمام هذا البحث _ لترميم الحاجات، كفريضة الزكاة، ونظام النفقات الواجبة، وتشريعات الميراث، والصدقات، والنذور، والكفارات. كما إنّه ندب أتباعه إلى نظام الوقف لأهمية دوره في مجال التكافل. وهذا البحث يتعرض لواحدة من أدوات التكافل الاقتصادي والاجتماعي التي يمكن من خلالها تدعيم دور المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية؛ حيث تختزن الأيديولوجية الإسلامية في جعبتها الكثير من الأفكار، والقادرة على أن تمنح هذه الأمة مقوّمات الصمود، وتساعدها على اجتياز مختلف التحديات التي تواجه مسيرتها، أيّاً ما كانت ميادين هذه التحديات وطبيعتها.

ويستعرض هذا البحث مفهوم «إنفاق العفو» ودوره في تفعيل العلاقة بين المجتمع والدولة في إطار نسق اقتصادي اجتماعي، وفي إطار هذا التركيز؛ حيث إنّ كثيراً من الدراسات التي تناسب مجال التكافل الاقتصادي والاجتماعي، قد غفلت هذه الأداة التي سيتم التركيز عليها ضمن هذا البحث، وكيفية مساهماتها في إحداث عملية التكافل الاقتصادي والاجتماعي للدولة المسلمة، فلم تسلِّط عليها الأضواء، بل ما زالت مجهولة، رغم أن هذه الفكرة تقع في بؤرة النظام الإسلامي، وتحتل مكان الصدارة فيه، ويُبرِز هذا البحث هذه الفكرة التي انقطع أثرها في واقع الحياة العملية.

أ _ العفو لغة وشرعاً:

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {ويسألونك ماذا يُنفقون قُلِ العفو} (البقرة/219). والعفو في اللغة الفضل؛ أي ما زاد على الحاجة، ويقول النسفي في شرح هذه الآية: «أي أنفقوا العفو مما فضل عن قدر الحاجة»، ثم يضيف: «وكان التصدق بالفضل، في أول الإسلام، فرضاً؛ فإذا كان الرجل صاحب زرع أمسك قوت سنة وتصدق بالفضل، وإذا كان صانعاً أمسك قوت يومه وتصدق بالفضل، فنسخت آية الزكاة الفضل». ومعنى ذلك أنّه: إذا كان المجتمع الإسلامي قليل الموارد، كان على كل عضو منه أن يرد إليه؛ أي أن يدفع إلى الفقراء المحتاجين جميع ما يزيد عن حاجته، حتى يمكن إقرار التوازن المعيشي، وهكذا يتسع حق الفقراء في أموال الأغنياء إلى درجة أخذ العفو منهم إذا اقتضت الضرورة ذلك، ويشهد لمشروعية هذا التدبير حديث الرسول (ص): «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم».

ب _ إنفاق العفو وآلية عمله في تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي:

لا شك في أنّ إنفاق العفو على الغير، بتمليكه له، يُعدُّ إنفاقاً في سبيل الله ما دام يقصد بذلك وجهه تعالى، غير أن التكليف بإنفاق العفو جاء مَرِناً إلى حدٍّ كبير، وجاء مطلقاً من دون قيود، فلم يكن تكليفاً بنسبة محددة، كما هو الحال في التكليف بالزكاة، وإنما جعل الله تعالى العفو كله محلاً للإنفاق. ومن هنا، فإنّ إنفاق العفو يساهم بأكثر من صورة في تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي لهذا المجتمع.

واستخدام العفو في تحقيق التكافل بين المسلمين، مع الاحتفاظ بملكيته، يمثِّل الحدَّ الأدنى لإنفاق العفو في سبيل الله. فبناء المشروعات الاستثمارية التي تحقق مصالح مؤسسيها، وتحقق، في الوقت نفسه، مصلحة المجتمع الإسلامي، يمثِّل صورةً من صور إنفاق العفو في سبيل الله. وعدم إنفاق العفو في هذه الصورة يعني تعطيل المال والجهد وإضاعتهما، وفاعل ذلك يقع تحت طائلة النهي عن إضاعة المال وتبديد الجهد. وتتدرج صور «إنفاق العفو» صعوداً بعد هذه الصورة التي تشتمل على تحقيق مصلحة صاحب العفو بتنمية ثروته وزيادة دخله، وتحقيق مصلحة المجتمع بإيجاد فرص للعمل وسلع للاستهلاك؛ حيث تليها صورةٌ كثيراً ما استخدمها المسلمون ودعا إليها النبي (ص)، وهي تتمثل في إنشاء مشروعٍ يزيد من حجم ثروة صاحب العفو، ولكنّ دخله وعوائده تكون لصالح المجتمع، مثل: من يبني دوراً يملكها ويزيد بها حجم ثروته، لكنه يخصصها لسكنى الفقراء وأبناء السبيل، مثلاً، وينتفع بها إذا احتاجها، وهي المنحة التي دعا إليها النبي (ص)، فعن جابر بن عبد الله قال: كان لرجال فضول أرضين من أصحاب رسول الله (ص)، فقال رسول الله (ص): «من كانت له فضل أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه».

والمنحة نوع من الإعارة، ولكن فيها معنى العطية، فإنّ إعارة شاةٍ أو ناقةٍ ليُشرب لبنُها تسمى منحة؛ ولهذا، فإنّ من منح غيره شيئاً يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، كالدار، والدّابة، والثوب، ففيه دليل على رد المنحة على الممنوح له؛ لأنّ منفعة النقل حصلت.

وبالتالي، فإنّ من ينفقون العفو يتنافسون فيما بينهم لسد حاجات المجتمع، ويترتب على ذلك أن المجتمع يجد، دائماً، من أفراده من يقوم بسد حاجاته، فإذا وُجِد جائع تسابق الناس لإطعامه، وإذا وُجد عارٍ تسابق أصحاب العفو لكسوته، وإذا وُجٍد مريض تسابق أصحاب العفو لعلاجه، بل وإذا وُجِدت الحاجة إلى مشروع زراعي، أو صناعي، أو خدمي تسابق أصحاب العفو إلى إنشائه. وهكذا يصبح العفو مصدراً لتمويل التنمية؛ بحيث إنّه كلّما احتاج المجتمع إنفاقاً على ما يُسْهِم في تحقيقها، وُجِد من أصحاب العفو من يقوم به، متخلياً عن ملكيته أو محتفظاً بها، تبعاً لطبيعة الإنفاق الذي يوجَّه إليه العفو.

ج _ شمولية إنفاق العفو جميع أفراد المجتمع

حيثما وجد المسلم يوجد نوع من إنفاق العفو يُمَكِّنه من تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي الذي هو نفع وخير للمجتمع وأفراده، فالعفو ليس موجوداً عند الأغنياء أصحاب المال فقط، ولكنه موجود عند كل مسلم غنياً كان أو فقيراً، فالغني لديه فضل مال يفعل به الخير، والفقير لديه فضل جهد يفعل به الخير ويقدم به العفو.

ولقد ظنّ بعض الصحابة (فقراء المهاجرين) أنّ العفو هو العفو المالي، ورأوا أن القدرة المالية للأغنياء تَمكِّنهم من السبق إلى الخير والتقدم بذلك على الفقراء، فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور (الأغنياء) بالأجور، لكنه (ص) صحَّح لهم هذا المفهوم وبيَّن المدى الواسع الذي ينتشر به العفو، وأنه موجود لدى كل إنسان بقدرٍ ما، وأن كل مسلم يستطيع أن يبذل الخير وينافس أصحاب المال باستخدام ما لديه من إمكانات تجعله محل رضوان الله تعالى، فالخير ليست وسيلته المال فقط، بل كل نفع للناس أيّاً كانت أداته وقال لهم: «أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن كل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة».

وباتّساع العفو وشموله كلَّ أفراد المجتمع، تُستَنْفَر كل الطاقات لتصب في مجرى واحد؛ لتحقيق تقدم المجتمع الإسلامي، وتتكاتف الإمكانيات المالية مع الإمكانيات البشرية في منظومة واحدة، من أجل الإسهام في بناء المجتمع المتكافل الذي يمثل كل فرد فيه لبنة بناء قوية يساهم بها في عمارة الأرض. ونستعرض في القسم الآتي من هذه المقالة، كيفية تحقيق التكافل من خلال إنفاق العفو من مصادره التالية:

1 - التكافل الاقتصادي والاجتماعي من خلال إنفاق العفو من الجهد البشري:

إن المسلم مكلَّف ببذل فائض جهده ومنافع بدنه في إعانة إخوانه وصلاح مجتمعه، بالقدر نفسه الذي يبذله من يفيض ماله، سواء بسواء. ومن المعروف أنّ الأعمال التي يمارسها الأفراد في المجتمعات الإسلامية لا تستغرق، في الغالب، كل أوقاتهم، ولا تستنفد كل طاقاتهم، وإنما يبقى بعد أدائها، الكثير من الوقت والطاقة، وفي إطار مسؤولية المسلم أمام الله _ عز وجل _ عن هذا الوقت وهذه الطاقة، قول الرسول (ص): «لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأَل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه».

وبالتالي، يتبين لنا: أنّ هناك طاقات فائضة من جهد الإنسان يُطلب استخدامها ولا يُسمَح بتعطيلها أو تبديلها، ولا يُعفَى مالكها من مسوؤلية قيامه بعمله الخاص على أكمل وجه، طالما أنه يملك الطاقة والجهد الفائضين عن أداء الأعمال الخاصة، وهو مكلف بالبحث عن ميدان نافع ينفق فيه جهده ووقته.

وحتى يصبح كلُّ فرد في المجتمع إيجابياً وعضواً نافعاً، فقد مُنِح فرصته ليكون متصدقاً في حدود ما يمتلك من موارد أو قدرات. فقد تكون الصدقة في شكل إماطة الأذى عن الطريق (وهي تتضمن أبعاداً اقتصادية خطيرة تتعلق بالمساهمة في علاج التلوث البيئي الذي أصبح يمثل ظاهرة عالمية خطيرة)، وقد تتم في شكل كلمة طيبة أو تبسم في وجه الآخرين، وبما ثبت من أثره الاقتصادي الإيجابي الذي يساعد على التخلص من أية مشاعر إحباط أو اكتئاب لدى الفرد، فيساعده ذلك، بدوره، على الانتعاش والعطاء الإنتاجي البنّاء في دائرة نشاطه، هناك، أيضاً، مساعدة الشخص على ركوب راحلته أو مركبته، ومساعدته في حمل متاعه؛ حيث يمكن أن يمثل عاملاً من عوامل رفع أداء الإنتاج والنشاط الاقتصادي، لجهة أنَّ تلك المساعدات، وغيرها، تخفض من الوقت المستغرق والطاقة المبذولة في أدائها. وبالتالي، يمكن أن تتيح للشخص العامل دورات استثمارية أكثر عدداً وكفاءةً عما إذا كان سيقوم بكل أعماله وحده بدون مساعدة الآخرين؛ لأنه في الحالة الأخيرة سيستخدم أعضاءه وحده، بينما في الحالة الأولى، سيكون هناك أعداد أكثر من ذات الأعضاء البشرية التي تقوم بالعمل الإنتاجي.

ويكون إنفاق العفو عملاً اقتصادياً يعود على صاحبه بعائد مالي ومعنوي، كما يعود على المجتمع بسدِّ حاجةٍ من حاجاته؛ ذلك أنّ الإسلام يجعل كل عمل مباح يمارَس بنيّة صالحة عبادةً لها ثوابها في الدنيا والآخرة؛ حيث يقول (ص): «فلا يغرس المسلم غرساً، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة يوم القيامة».

فإنتاج الطيبات في المجتمع الإسلامي، وكل طرق استخدامها بعد إنتاجها، تعود على منتجها بالثواب حتى ما يأكله منها، وليس فوق ذلك حثٌّ على بذل الجهد في ممارسة الإنتاج وتوجيه العفو من الجهد البشري إلى إثراء الحياة بكلِّ الطيبات من المنتجات.

وهكذا نرى أن ميادين إنفاق العفو من الجهد البشري لا تقع تحت حصر، وإنما هي كثيرة بقدر ما توجد وسائل وأساليب النفع وتحقيق تكافل المجتمع. وهذا النوع من العفو يملكه كل صاحب مقدرة عضلية، أو روحية، أو فكرية، والمجتمع بحاجة إلى جميع هذه الطاقات، وإلى مداومة تحريكها وصيانتها وعدم تبديدها.

ولما كان هناك صعوبة في عمل الأفراد مشتتين في إنفاق العفو من الجهد البشري، أو أن يباشر الفرد ذلك بصورة فردية وبمعزل عن تنظيم جمعي؛ حيث إنّ ذلك يتطلب من تضافر الجهود التنظيمية وجمع الطاقات بعضها إلى بعض بهدف توجيهها، ما يكفل أكبر استفادة منها، ومن ثَمّ، فإن توجيه الطاقات البشرية الفائضة (العفو) يحتاج إلى إقامة مؤسسات أو تنظيمات تحت حماية الدولة؛ بحيث تعمل كل مؤسسة على جمع هذه الطاقات في مؤسسات تصنيفية، الأمر الذي يجعلها أكثر إنتاجية. فيتم إنشاء مؤسسة للعمل والتدريب ينضم إليها الأفراد طبقاً للإمكانيات، والخبرات، والمؤهلات، ومن ثَمّ تحديد نوع الفائض (العفو) من الجهد الإنساني الذي يملكه.

وعلى سبيل المثال: يمكن أن تُصَنَّف مؤسسةٌ لإعانة الصُنّاع، وتدريبهم، ورفع مستواهم الفني، وتوجيههم إلى المجالات التي يحتاجها المجتمع، يقول رسول الله (ص): «إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق (لغير ماهر)». ويمكن أيضاً، إنشاء مؤسسة أخرى لحماية البيئة من التلوث، والإشراف على نظافتها، ومنع الاعتداء عليها بما يلوثها، حيث يقول الرسول الكريم (ص): «... وتميط الأذى عن الطريق صدقة». كما ويمكن إقامة مؤسسة لحماية القيم والأخلاقيات العامة، حيث يقول الرسول الكريم (ص): «أمر بالمعروف ونهي عن المنكر صدقة»، وواحدة لرعاية اللاجئين والمشردين وإعانتهم، يقول رسول الله (ص): «من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة». وأخرى لرعاية الطفولة وكفالة الأيتام، يقول الرسول الكريم (ص): «كافل اليتيم له أو لغيره إذا اتقى، معي في الجنة كهاتين. وأشار إلى السبابة والوسطى وفرج بينهما». ومؤسسة أخرى لقيادة البحث العلمي والابتكار وتطبيقاته، ومنها قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة»، إلى غير ذلك من المؤسسات التي يقيمها أفراد الأمة تحت مظلة الدولة الإسلامية، بغية تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي من خلال إنفاق العفو من الجهد البشري، وبذلك يساهم المجتمع، من خلال أفراده، مع الدولة في تحقيق قدر عال من التكافل الاقتصادي والاجتماعي.

2 _ التكافل الاقتصادي والاجتماعي من خلال إنفاق العفو من المال العيني:

يمتلك الناس نوعاً هامّاً من أنواع المال، يتمثل في أدوات الإنتاج التي يستخدمها الشخص في العملية الإنتاجية، كما يتمثل في الأدوات التي يستخدمها الإنسان في حياته اليومية، وهو بصدد إشباع حاجاته، مثل السلع الاستهلاكية المعمرة، ودوابّ الركوب، ومنـزل السكنى... إلخ.

هذا النوع من المال يمثل جانباً كبيراً، بل الجانب الأكبر من حجم الأموال في المجتمع، وكثيراً ما يُقتَنى بحدٍّ قد يربو على الحاجة الشخصية لمن يقتنيه، بل ربما يُقْتَنَى بعضه، ولا يُستخدم إلا أياماً محدودة في العام، فهو، لهذا، يمثِّل مصدراً هاماً لتمويل التنمية وتحقيق التكافل. والإسلام يقيم وزناً كبيراً لهذا النوع من العفو، ويعمل على دفع المسلم إلى تبين حجمه لديه، وتقديمه إلى من هو في حاجة إليه؛ كي لا تُهدر منافعه، ولا تبدد طاقته. فهذا النوع من «العفو» إن لم يُقدَّم لمن هو في حاجة إليه، فسيبقى لدى مالكه بغير استعمال في الأوقات التي لا يستعمله فيها، وإذا قام بتقديمه إلى من هو في حاجة إليه، فيستولد عنه دخل ما، ويعني ذلك زيادة الإنتاج من الحجم نفسه من أدوات الإنتاج، وزيادة المنافع المشتقة من أدوات الاستعمال اليومي في الحياة، وبالتالي، زيادة حجم الإنتاج القومي من نفس حجم الإمكانيات المملوكة للمجتمع في شكل مال عيني.

وبناءً على ذلك، يمكن أن يساهم العفو في المجال العيني في تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي، وذلك بقدر التزام أصحاب «العفو» بتقديمه إلى من هو في حاجة إليه.

وقد رغَّب الإسلام في بذل «العفو» من أدوات الإنتاج وأدوات الاستهلاك، إلى الدرجة التي جُعِل منع هذا «العفو» علامةً على التكذيب بالدين، أو صفة من صفات المكذبين بالدين، وإن صلوا مع المصلين، فقال سبحانه وتعالى: {أرأيت الذي يُكذِّب بالدِّين* فذلك الذي يدعُّ اليتيم* ولا يحضُّ على طعام المسكين* فويلٌ لِّلمصلِّين* الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يُراؤون* ويمنعون الماعون} (الماعون/1_7).

ومنع الماعون _ المتوعَّد عليه _ يعني عدم تقديم أدوات الإنتاج، وأدوات الاستخدام الحياتي _ عند عدم شغلها بحاجة صاحبها _ إلى من هو في حاجة إليها. وهكذا فُسِّر الماعون في أصحّ التفسيرات له، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الماعون ما يتعاطاه الناس بينهم. وروى عنه أيضاً: أنه القِدْر، والفأس، والدلو، ونحوها. وتحقيق الكلمة، كما يقول ابن العربي: أن الماعون من أعان يعين، والعون: الإمداد بالقوة، والآلة، والأسباب الميسرة للأمر.. ولما كان الماعون من العون، كان كل ما ذكره العلماء في تفسيره عوناً. وجاء في المعجم الوسيط: «الماعون اسم جامع لمنافع البيت، كالقدر، والفأس، والقصعة، ونحو ذلك مما جرت العادة بإعارته».

ومن كل هذا، يتبين لنا أن أقرب تفسير للماعون الذي توعد الله تعالى مانعه بالويل، هو أدوات الإنتاج (الفأس، في أمثلتهم) وأدوات الاستخدام المعيشي (القدر، والقصعة، والإبرة، في أمثلتهم)، والتي تختلف باختلاف المستويات الحضارية وتقدم الفنون الإنتاجية، ويجمعها قول ابن العربي: «الإمداد بالقوة، والآلة، والأسباب الميسرة للأمر». وقد حفلت السُّنة المطهرة بالحث على كثير من تطبيقات هذا التكليف، حثّ عليه الصلاة والسلام المسلم أن يعير أخاه حيواناً ذا لبن، ينتفع بلبنه سنة ثم يرده، فقال: «أربعون خصلة، أعلاها منيحة العنـز، ما من عامل يعمل بخصلة منها، رجاء ثوابها، وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة». قرر صلوات الله وسلامه عليه، أن أفضل الصدقات يتمثل في تقديم منافع الأدوات وعوامل الإنتاج، فقال: «أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله، ومنيحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل في سبيل الله»، فهذه الإرشادات، والأوامر، والتقريرات، كلها تتناول تقديم أدوات إنتاج، أو أدوات استعمال معيشي، فمنيحة العنـز تعني: تقديم مصدر إنتاجي، يحصل منه متلقيه على ما يسدُّ حاجته، ومنيحة الخادم تعني: تقديم مصدر إنتاجي، يحصل متلقيه على خدماته الإنتاجية، وطروقة الفحل تعني: تقديم خدمة إنتاجية تمثل مصدراً لنماء الثروة الحيوانية، وظل الفسطاط يعني: تقديم مصدر إنتاجي يحصل متلقيه على منفعة في صورة السكنى، وكذلك السماح بغرز الخشب في الجدار، يسهم في توفير المسكن الذي يعدُّ مطلباً ضرورياً من مطالب الحياة الأساسية.

وعندما يجعلها النبي (ص) أفضل الصدقات، فإنما ذلك لأثرها الإنتاجي، وعائدها المباشر على الدخل الفردي، وبالتالي الدخل القومي. وجعلها أفضل الصدقات، يمثل دعوة قوية من الشريعة الإسلامية، لجعله هذا السلوك متأصلاً في النفس المسلمة، فيترتب على ذلك أن يكون لهذا النوع من العفو أثر كبير على تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي، وبخاصة أن الحد الأدنى مما يُقْتَنَى من هذه الأدوات، غالباً ما يكون أكبر من حاجة الشخص العادية، ومن ثم، فإن التحبيب في تقديم «العفو» منها إلى من هو في حاجة إليه، يمثل طريقاً لحسن استغلالها. وإذا كان عائد الاستغلال المباشر، هو لمصلحة متلقي هذا العفو، فإن عائده بالنسبة إلى صاحبه أكبر بكثير جداً؛ لأنه، كما قال النبي (ص): «ما من عامل يعمل بخصلة منها، رجاء ثوابها، وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة»، وكفى بها عائداً في معيار المسلم؛ على أنَّ صاحب «العفو» لن يحرم العائد المادي في الدنيا أيضاً.

فلا شك، إذاً، في أن شيوع هذه القيم بين الناس، وتبادل «العفو» في الأدوات فيما بينهم، سيعود بالفوائد الكثيرة عليهم جميعاً، إن لم تكن مباشرة، بحصول من قدّم «العفو» من أداة، على «العفو» مما لدى شخص آخر، فإنه سيحصل على الفائدة بطريق غير مباشر، في شكل تقدم المجتمع، وارتفاع مستوى معيشته. ولا شك في أن العائد السياسي لهذا السلوك، وهو الطمع في جنة الله، إلى جانب الفوائد في الدنيا، مباشرة وغير مباشرة، يمثِّل حافزاً كافياً لحرص الناس على بذل «العفو» من أدوات الإنتاج وأدوات الاستعمال المعيشي، الأمر الذي يرفع الأثر التمويلي لهذا النوع من «العفو».

وبما أن ظروف الحياة قد اختلفت، وانتقلت من البساطة التي كانت عليها، إلى قدر من التعقّد غير قليل، فلم تعد منيحة العنـز، أو ظل الفسطاط، هي الممثلة لما لدى الناس من عفو، وإنما حدثت في حياة الناس أنواع من وسائل العيش والإنتاج، تتضمن «عفواً» ينبغي عدم منعه.. ووجود تنظيمات تمثل قنوات لنقل هذا «العفو» من مالكه إلى المحتاج إليه، ييسّر على الناس قيامهم بهذا التكليف، ويساعدهم عليه.

إن «العفو» من أدوات الإنتاج، أو أدوات الاستعمال، قد يتمثل، اليوم، في أداة قديمة استبدل بها مالكها أداةً جديدة، لكنها لـمّا تزل على قدر من الصلاحية، فهي لديه «عفو» إلى جوار الأداة الجديدة.

ويمكن تنظيم صالات عرض خاصة لمثل هذا النوع من «العفو»، عن طريق المؤسسات الخيرية التي تقوم بتقديمه إلى من يسد حاجته به، بعد أن يتعرف على هذه الأدوات في صالات العرض هذه، ويتقدم إلى الجهة المشرفة بحاجة، وقد تكون هذه الأداة فوق حاجته جودةً وحسن أداء، مع أنها لم تكن كذلك بالنسبة لصاحبها.

وهذا التنظيم يمكن أن يمارس في السلع المعمرة _ إنتاجية واستهلاكية _ مثل السيارات والثلاجات، والغسالات، والثياب، وبخاصة ثياب المناسبات، وآلات الطباعة والنسخ، وأثاث المنازل والمكاتب، وأجهزة التلفاز، وكتب العلم، وأدوات الحرف المختلفة، إلى غير ذلك مما لا يقع تحت الحصر. والعفو في هذه الأشياء، يتمثل في عينها بالقياس إلى ما يملكه صاحبها من أدوات أفضل منها، وهو يقوم بتمليك هذه الأدوات لمن سيحصل عليها.

هذا، وإن دَوْرَ هذه التنظيمات لن يقتصر على تيسير تبادل «العفو» بين الناس، وإنما سيذكِّر وجودُها أصحاب «العفو» بواجبهم، وبالتكليف الملقى على عاتقهم، في ما خوّلهم الله تعالى من إمكانيات.

ولا بد من التنبيه هنا، إلى أنّ إقامة هذه التنظيمات، لا تعني إهمال الطرق المباشرة لتقديم «العفو»، بل يبقى لتبادل «العفو» بالطريق المباشر بين مالكه ومن يحتاج إليه، مجالاته الكثيرة التي تمثل ميداناً واسعاً من ميادين تقديم «العفو» في الأدوات. فلا يزال للإبرة، والفأس، والدلو، والقصعة، كأمثلة تراثية للعفو في الأدوات، تطبيقاتها في حياتنا، بين المرء وجيرانه في السكنى، أو جيرانه في العمل، ودورها في تيسير إتمام الإنتاج، ملحوظ.

وإن بدائل الفأس من المحراث التقليدي والآلي، وآلات البذر والحصاد، وغير ذلك من أدوات الزراعة، تمثل ميداناً رحباً لتبادل «العفو»، ويمكّن متلقيه من ممارسة الإنتاج على مستوى التقنية العصرية، الأمر الذي يرفع متوسط الإنتاجية الزراعية في المجتمع، ومن ثم يرفع مستوى الإنتاج القومي.

3 _ تحقيق التكافل الاقتصادي والاجتماعي من خلال العفو مِنَ المال النقدي:

إنّ النقود تختلف عن غيرها من الأموال في أنها لا تشبع الحاجات بذاتها، وإنما تمثل الوسيلة إلى إشباع الحاجات بالحصول على الطيّبات. فالمرء يستخدم النقود في الحصول على المعدات، والآلات، والأدوات، كما يستخدمها في بناء إمكانياته البدنية، وصقلها، وتنميتها، والمحافظة عليها، وهو، قبل ذلك، يستخدم النقود في الحصول على ما يشبع حاجات من يعول ممن تجب عليه نفقتهم، ويبقى عنده، بعد ذلك، «العفو».

ولا شك في أن الإنسان قد يشتري بنقوده ما يحتاج إليه لسدِّ حاجاته الاستهلاكية والإنتاجية، ثم يبقى لديه قدر منها، يصلح لشراء مختلف الإمكانيات التي تسدُّ حاجات الناس، ويكون في غير حاجة إليها في ظروفه الآنية، فهل من حقه أن يحتفظ بهذا القدر في شكله النقدي؟ أم أنّه يجب عليه أن ينفقه في سبيل الله تعالى؟ إن حديث رسول الله (ص) يوضح ذلك؛ حيث يقول: «من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له. قال (سعيد الخدري) فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل».

هذا الحديث يحدد أنه إذا كان في المال النقدي «عفو»، فإنّ هناك إنفاقاً لهذا العفو، «فليعد على من لا فضل له»، والكنـز منهي عنه بنص الآية، يقول الله تعالى: {والذين يكنـزون الذهب والفضّة ولا يُنفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذابٍ أليمٍ* يوم يُحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تَكنـزون} (التوبة/34_35).

ومن هنا، فإن الذهب والفضة _ النقود عامةً _ إذا لم تؤد منها الحقوق، وأولها الزكاة، كانت كنـزاً، وإذا أُدِّيت زكاتها ومُنِعَت بقية الحقوق الواجبة فيها، فلن يفارقها وصف الكنـز، ومن ثم، فليس من حقِّ المسلم إمساك المال النقدي عن الحقوق التي جعلها الله تعالى فيه.

ومن الحقوق في المال، استخدامه في ما يعود بالنفع على المسلمين، من بناء الاستثمارات، وإقراض المحتاج، وإطعام الجائع، وتعليم الجاهل، وعلاج المريض، وغير ذلك من ضروب التكافل بين المسلمين التي تعبر عن طبيعة النظام الإسلامي، كما أوضحته آيات القرآن وأحاديث الرسول (ص).

وبناءً على ما تقدم، فالنتيجة النهائية هي أنّ المال النقدي لا يُسمَح بحجبه عن الحقوق المقرَّرة فيه، فإن حدث ذلك اعتبرت النقود كنـزاً، وحتى لا يقع المسلم تحت الوعيد الوارد في الكنـز، فعليه أن يقوم بكل الحقوق الواجبة في المال من زكاة واستثمارات، وشتى فروض الكفاية الواجبة على الكافّة، بنظامها المعروف في الإسلام. فإذا بقي مال نقدي لدى المسلم فوق الوفاء بهذه الحقوق، كان مالاً مطهراً، لا يُلام على الاحتفاظ به، ويترقَّب استخدامه في ما ينبغي أن يستخدم فيه.

ويؤكد هذه النتيجة نصيحة النبي (ص) لمن لديه مال يفيض عن كفايته من الإنفاق الاستهلاكي، والإنفاق الاستثماري، أن يبذله في وجوه النفع، مبيناً أن إمساك هذا الفائض شر وإنفاقه خير. ولا شك في أن المسلم مأمور بفعل الخير، منهي عن فعل الشر، لقد قال صلوات الله وسلامه عليه: «يا بن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى».

وتختلف طريقة تقديمه من حالة لأخرى، فهناك حالات يكفي فيها تقديم «العفو» من المال النقدي في صورة قرض، يُستردُّ عندما ييسر الله تعالى للمقترض أداءه، وهناك حالات يجب فيها تقديم المال في صورة هبة أو صدقة، وحالات أخرى يُقدَّم فيها المال النقدي إسهاماً في مشروعات عامة، تفي بفرض من فروض الكفاية المطلوبة من المسلمين، وثمة حالات يُقدّم المال النقدي فيها لبناء مشروع استثماري بشكل مستقلّ، أو بالاشتراك مع الآخرين بصورة من صور المشاركة، إلى غير ذلك من صور إنفاق «العفو».

مصطفى محمود عبد السلام* الحياة الطيبة

Publicité
Commentaires
Archives
Publicité
Publicité